علقت تسمية القياد و البشاغاوات في مخيال الجزائريين بأبشع معاني العمالة للاستعمال و التنكر للأهل و الأصول، رغم أن هذا السلك ولد نبيلا في العهد التركي..فكيف وجد هؤلاء و من أوجدهم؟ كم كان عددهم و من أين ينحدرون؟ ما هي المهام التي أنيطت بهم؟ كيف تحولوا من شركاء للأتراك إلى عملاء للاستعمار الفرنسي.."الشروق" بهذا الملف تحاول أن تجيب عن بعض هذه الأسئلة على أن تترك النقاش مفتوحا للمهتمين و الدارسين و الباحثين آملة أن يدلوا بدلوهم في الموضوع.
* من شركاءالأترك إلى عملاء للفرنسيين
* هكذا ولد القياد والبشاغاوات
يعين القيادة عادة من باي المقاطعة(❊)، باقتراح من قائدها العسكري الذي يعرف بـ"الآغا". ويتم اختيارهم بناء على ما يتمتعون به من جاه ومكانة، سواء أكان ذلك بالوراثة أو بالاكتساب.
وكان هناك صنفان من القياد: قياد المهام وقياد القبائل.
- قياد المهام منهم على سبيل المثال قياد تحصيل الضرائب: قايد العشر، قايد الإبل، قايد الدخان.. الخ.
* - قياد القبائل ويتمتعون بسلطات واسعة نسبيا، تشمل الجوانب السياسية والإدارية والقضائية والجزائية، فضلا عن تولي الإشراف على الأسواق الأسبوعية للقائل.
ويشرف الآغا عادة على قيادة 9 "أوطان".
وأقام الأمير عبد القادر، نظاما مماثلا في حدود دولته التي امتدت أيام قوته من بجاية شرقا إلى تلمسان غربا. فقد قسم فضاء دولته إلى ثماني مقاطعات، عيّن على رأس كل منها خليفة له. وكانت كل مقاطعة تضم عددا من الدوائر، على رأس كل منها آغا يشرف على عدد من القبائل، على رأس كل منها قايد بمساعدة عدد من الشيوخ بعدد فرق هذه القبائل.
*
وغداة احتلال الجزائر ـ بدءا من 1830 ـ حافظ الغزاة الفرنسيون على تسمية القايد والآغا وأضافوا إليها الباشاغا.. لكن بمضمون دون المضامين السابقة، بعد أن أصبحت عنوانا لمهام تنفيذية، تختلف في جوهرها عن المهام السابقة القريبة من الوظائف السلطانية (السيادية).
وأبرز دليل على هذا التدني في الأهمية، أن هذه الأسلاك المساعدة أصبحت تحت إشراف هيئة عسكرية باسم "المكاتب العربية". فقياد القبائل مثلا، أصبحوا يعينون على مستوى الدوائر، حيث يوجد مكتب رئيسي للشؤون العربية يديره ضابط برتبة عقيد. ويأتي اقتراح تعيين هؤلاء من مكتب الدوار للشؤون العربية.
وهناك درجتان لـ"الأسلاك العليا":
- الخليفة، الباشاغا، الآغا المستقل، يخضعون للجنرال قائد المقاطعة، ويتم تعيينهم من الملك شخصيا.
- الآغا ويخضع للعقيد قائد الدائرة، ويعينه الملك أيضا، لكن باقتراح من الخليفة أو الباشاغا.
هذا النظام الموازي الخاص بالجزائريين (الأهالي أو "الأنديجان") استمر بعد تأسيس العمالات وتوابعها سنة 1848، كما استمر بعد إلغاء المكاتب العربية سنة 1870. وبموجب قانون 4 فبراير 1919، اكتسى طابعا قانونيا، بعد ترسيم سلك القياد كمساعدين رؤساء البلديات أو الحكام المحليين، باعتبارهم موظفين يتقاضون مرتباتهم من خزينة الولاية العامة.
وينص المرسوم التنفيذي الصادر في 6 فبراير، على أن الوالي العام يعين على مستوى البلدية المنتخبة قائدا ـ فأكثر ـ باستشارة المجلس البلدي. ويعين قياد البلديات المختلطة بنفس الطريقة، علما أن القانون الجديد كان يميّز بين هؤلاء ونظرائهم في البلديات المنتخبة إلى غاية أكتوبر 1952، عندما تمّ توحيد السلكين.
ولم يكن رؤساء البلديات وحكامها ينظرون عادة بعين الارتياح لسلك القياد، وكانت مرتبات هؤلاء زهيدة في الغالب، ما يفسّر انتشار ظاهرة الفساد بينهم، حفاظا على مظاهر الوظيفة وأبّهتها ويستغلون في ذلك حاجة المواطنين إليهم في الحصول على وثائق الحالة المدنية، وتسجيلهم في قوائم الناخبين، ودعم طلباتهم رخص السياقة وحمل السلاح وفتح المقاهي والحصول على قروض "الشركة الأهلية للإحتياط"وما إلى ذلك.
وبخصوص الترقية، يمكن للقائد أن يعيّن آغا بعد أقدمية 10 سنوات، ويمكن للآغا أن يصبح باشاغا بعد 6 سنوات من الخدمة.
وينتمي كثير من القياد إلى عائلات وقبائل تقلدت نفس المكانة في العهد التركي أو في دولة الأمير عبد القادر. فمنها من غُلب واستسلم فأطاع الغالب الفرنسي، ومنها من سارع بإعلان الولاء بعد رفض المشاركة في المقاومة ومنها من ولّى أثناء الزحف.
وتكشف دراسة أجريت سنة 1937 على 721 قايد بالبلديات المختلطة، أنهم ينحدرون حسب الأهمية من الفئات التالية:
- المزارعين: 350
- أشراف الدين: 200
- أشراف الحرب: 100
- ضباط أو ضباط صف سابقون بجيش الاحتلال: 60
وتكشف نفس الدراسة، أن هناك نوعا من التوارث والاحتكار للمنصب من لدن بعض العائلات الكبيرة، نذكر منها حسب الأهمية:
عائلة فرحات (13 قايد)، ابراهيمي (10 عين بسام ـ عين بوسيف)، السايح (8 الشلف)، بوطيبة (8 الشلف)، بن حبيلس (6 شرق الصومام)، بن شنوف (6 شرق الأوراس)، مشري (6 تبسة).
هذه الأسماء الكبيرة وغيرها كثير، مذكورة في الكتب الذهبية لفترة الاحتلال الفرنسي، وكثيرا ما تذيل بعبارات مثل:
- "جده الأول.. ساعد الفرنسيين على احتلال المنطقة".
- "والده شارك في قمع الانتفاضات بالمنطقة".
- "الطريقة التي ينتمي إليها عارضت الأمير عبد القادر، أو أن الأمير سجن جده لهذا السبب".
- فلان عيّنه المارشال بيجو خليفة، وفلتان علق الجنرال (السفاح) سانت أرنو وساما على صدره، وعلان شاركت قبيلته في الهجوم على السمالة، عاصمة الأمير المتنقلة.
- "عائلة نافذة.. وفية للقضية الفرنسية"(الاستعمار).
- "من النخبة المسلمة.. المنفتحة على التقدم دائما"(1).
ــــــــــــــــــــــ
(*) Claude Collot, Les Institutions De l'Algerie Durant la Periode Coloniale, O.P.U
ALGER 1987
(1) Georges le Beau, Livre d'or de l'Algerie, ALGER 1937
القياد والثورة
بين مطرقة الثورة.. وسندان الاحتلال
وقف القياد عامة غداة إعلان ثورة فاتح نوفمبر 1954 في صف إدارة الاحتلال، باعتبارهم حلقة فيها وإن كانت أضعف حلقاتها، لانحسار دورها إداريا وسياسيا، وتدني سمعتها شعبيا، بعد توظيف الوالي العام لها ـ بدءاً من 1948 ـ في تزوير الانتخابات على أوسع نطاق، فلا غرابة إذاً أن يسقط الحاج صدوق قايد مشونش (بسكرة) صبيحة فاتح نوفمبر، بمنعرج تيغانمين في قلب الأوراس.
غير أن تمايز الصفوف بين إدارة الاحتلال وأقلية "الكولون"من جهة، وجبهة التحرير الوطني وعامة الشعب الجزائري من جهة ثانية، هذا التمايز المتعاظم ما لبث أن فعل فعله: تحييد نسبة من القياد وكسب تعاطف، بل ولاء نسبة أخرى..
وقد ساهمت إدارة الاحتلال وجيشها في هذا التحييد إلى حد ما، باهتزاز ثقتها في هذا السلك، لاسيما بعد أن ثبت عجزه في استشعار الثورة، والتبليغ بها في الوقت المناسب، وباستبدال مصالح "الصاص"(المصالح الإدارية العسكرية) به، قبل إقدام الوزير المقيم روبار لاكوست على إلغائه لانتفاء الحاجة إليه عمليا، وقد تولت مصالح الأمن والجيش إدارة الحرب مباشرة.
طبعا هناك بعض الاستثناءات التي تمادت في إعلان الولاء لنظام الاحتلال وعرض عمالتها عليه، طمعا في كسب ثقته من جديد، بمحاولة البرهنة في الميدان على نجاعتها في قمع حركة التحرر الوطني ـ في بدايتها خاصة ـ كما فعل الباشاغا السعيد بوعلام قايد عرش بني بودوان ناحية الكريمية بولاية عين الدفلى.
لكن هناك نماذج أخرى، تؤكد أن نداء فاتح نوفمبر لقي آذانا صاغية في هذه الفئة كذلك، فتجاوبت معه بالصمت تارة وبالتعاطف تارة وبالمشاركة في حركة التحرّر تارة أخرى.
ونقدم فيما يلي ثلاث حالات تبيّن هذا التدرج، وتعبّر في نفس الوقت عن صعوبة موقف القياد الذين وجدوا أنفسهم فجأة بين سندات إدارة الاحتلال ومطرقة ثورة التحرير.
أولا: قايد ثنية العابد (الأوراس)
كان بناحية أولاد عبدي أحد أعراش الأوراس عشية الفاتح نوفمبر، رجل مخابرات ميداني، يدعى جان سرفيي الضابط "الاحتياطي"في سلاح الخيالة، يقيم هناك تحت غطاء البحث الأنتروبولوجي. كان يريد أن يتعمّق في معرفة المجتمع المحلي، استكمالا لما قامت به الباحثة المعروفة جرمان تيون في الثلاثينيات قبله.
كان الباحث المخابراتي على صلة وطيدة بقايد ثنية العابد، أحد المراكز العمرانية لعرش أولاد عبدي، لكنه عشية الفاتح نوفمبر، لاحظ أن سلوكه معه تغيّر فجأة.. كان فيما مضى يلبّي جل طلباته إن لم نقل كلها.. غير أنه رفض ـ رفضا قاطعا ـ اصطحابه مساء السبت 30 أكتوبر 54 إلى وعدة (اجتماع) بقرية مجاورة وأكثر من ذلك طرق عليه بابه منتصف الليل عند عودته، ليقول له باختصار: عليك بالرحيل غدا!
احتج "الباحث"بأنه لم ينجز مهمته بعد، لكن القايد أصرّ: لا بأس.. ترحل غدا مع ذلك! حاول أن يستفسر: لماذا غدا؟
فقاطعه: غدا.. مساء سعيد!
اعتقد الباحث أن القايد يكون عاد من "الوعدة"زاطلا لكثرة ما دخن من الكيف!
في صبيحة الأحد، تأكد الباحث أن صديقه القايد، لم يكن مخدرا البارحة؛ فقد جاءه ثانية ليؤكد بإلحاح: عليك بالرحيل فورا.. هذا الصباح!
قدم القايد هذه المرة تفسيرا للباحث مفاده أن محصل الضرائب يحل بالقرية غدا (فاتح نوفمبر)، الأمر الذي من شأنه أن يغضب السكان على الفرنسيين عامة.. لذا فالأفضل أن ترحل من باب الحذر، تفاديا لما قد يند عن السكان من سوء النظرة والمعاملة!
تدبر القايد أمر ترحيله إلى أريس.. وفي الطريق إلى القرية المجاورة التي يمر بها الطريق المعبد، حيث تنتظره السيارة، صادف صديقا ثانيا، هو طالب القرية الذي دعاه لتناول طبق من الكسكسي قبل أن يودعه قائلا: التحق بآريس.. فذلك خير لنا جميعا! الحمد لله!(1)
ثانيا: الباشاغا الهاشمي بن شنوف (خنشلة)
بادرت السلطات المدنية والعسكرية في الجزائر غداة فاتح نوفمبر بتوجيه أصابع الاتهام إلى الباشاغا بن شنوف المندوب بالمجلس الجزائري ورئيس بلدية خنشلة في آن واحد.
كان الجنرال "شوريير"قائد الجيش الفرنسي بالجزائر يتساءل: "لماذا لم يبادر أعيان المسلمين بأشعارنا بحركة لا يمكن أن يجهلوها؟".
أما قائد الجيش بعمالة قسنطينة الجنرال سبيلمان، فكان أكثر تحديدا أن يقول: "لا يمكن أن أصدق بأن الباشاغا بن شنوف لم يعلم أو لم يتوقع ما كان يدبر بناحيته"!
للتذكير، أن رفاق عباس لغرور، تمكنوا ليلة الفاتح نوفمبر، من القضاء على قائد الموقع العسكري بخنشلة الملازم الأول "دارنو".
وكان الوالي العام روجي ليونار يقول بنوع من المرارة: "إن بن شنوف كان مقصرا معنا، رغم حظوته لدى فرنسا".
وكان عامل قسنطينة "بيار دبوش"يشك في بن شنوف!
وفي جولة تفقدية غداة الفاتح نوفمبر، توقف الوفد الرسمي بخنشلة، يقوده الجنرال سوريار وليونار بحضور "جاك شوفاليي"، كاتب الدولة للحرب، والشخصية البارزة في الحرب الراديكالي روني مايير نائب دائرة قسنطينة في المجلس الوطني الفرنسي.
وبينما كان أغلبية الوفد ناقما على الباشاغا، فضل صديقه شوفاليي أن يقوم بدور الشفيع، بعد أن قبل دعوته لشرب كأس شاي في منزله.
وقد اصطحب كاتب الدولة للحرب معه كلا من مايير ودبوش.. وبعد تناول الشاي التقليدي، اشترك الضيوف الثلاثة في حثّ الباشاغا على "التدخل لوقف التمرّد.."، ملوحين على أهمية ذلك بالنسبة لمستقبله السياسي..
وقد تعهّد بن شنوف أمامهم بأنه لن يتوانى في ذلك، وأنه سيوظف علاقاته بالمنطقة إلى أقصى حد.
ولم ينسَ وهو يودع ضيوفه أن يهمس في أذن صديقه شوفاليي: "لقد أنقذت حياتي، لولاك لما ترددوا في اعتقالي، وأنت تعرف جيدا كيف يحملون المعتقلين على الاعتراف"!(2)
ما يؤكد التفشي المبكر لظاهرة التعذيب في مراكز الأمن المختلفة التي لن تستثني الباشاغا نفسه لو وقع بين أيديها!
ثالثا: الباشاغا أحمد ابراهيمي (عين بسام ـ عين بوسيف):
ورد ذكر الباشاغا أحمد ابراهيمي، في شهادتين من الشهادات التي سجلناها لكبار المناضلين والثوار:
1 ـ شهادة المحامي المناضل عبد الرزاق شنتوف: يقول عبد الرزاق شنتوف المحامي والقيادي السابق في حركة انتصار الحريات الديموقراطية، أن رجال الباشاغا ابراهيمي كانوا يرهبون مناضلي الحركة، أثناء حملة الانتخابات في أبريل 1948 لانتخاب أول مجلس جزائري ـ تطبيقا للقانون الخاص بالجزائر الصادر في 20 سبتمبر من العام الماضي، وأن قيادة الحزب قرّرت إيفاد عدد من الطلبة المناضلين إلى ناحية بير غبالو، لدعم المناضلين القائمين بالحملة هناك.(3)
2 ـ العقيد الصادق سليمان دهيلس:
يقول العقيد الصادق ـ قائد الولاية الرابعة ـ أن الباشاغا أحمد ابراهيمي كان من الشخصيات الإدارية التي ساعدت المجاهدين ناحية عين بسام ـ سور الغزلان. ويروي كيف وضع نفسه في خدمة الثورة كمايلي:
في ديسمبر 1955، أرسلت مجاهدا إلى الباشاغا أحمد، أطلب منه استضافة فصيلة من المجاهدين. وقصدنا منزله فعلا على الساعة الرابعة ظهرا، فأعد لنا طعاما شهيا، وسقانا قهوة ماتزال رائحتها الطيبة عالقة بذاكرتي حتى اليوم.
كان الباشاغا، فارع القامة، ولم تكن نظراته الحادة تفارقنا طوال الأكل والشرب، وبمجرّد أن أنهينا الطعام، ناداني على انفراد ليقول لي: ماذا تريد مني؟ فكان جوابي: نحن في حالة حرب، ونريد معرفة حلفائنا وأعدائنا.
فرد عليّ: اذهبوا، فعليكم الأمان في 24 دوارا أشرف عليها، وبإمكانكم أن تقصدوا شمالا أباشاغا أحمد بن سعيد، فهو صهري وسيكرم ضيافتكم.
ويضيف سي الصادق قائلا: أن هذا الموقف من الباشاغا ابراهيمي، أثلج صدورنا، وقدم لنا خدمات جليلة. وقد ظل وفيا لعهده إلى أن تفطّنت إدارة الاحتلال لذلك، فدبّرت عملية اغتياله رفقة ابنه في ديسمبر 1957، وكان في طريقه إلى سور الغزلان، كما اغتيل معهما راع كان شاهدا بالصدفة، على هذه الجريمة النكراء التي حاول الاستعمار إلصاقها بالمجاهدين(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) و(2) عن أيف كوريير في Les Iils de la Toussaint
(3) شهادته في كتابنا "رواد.. الوطنية".
(4) شهادته في كتابنا "فرسان الحرية".
* الباشاغا بوعلام نموذجا:
نائب رئيس .. "جعجعة الجزائر الفرنسية"
قائد "المسلمين الأوفياء".. "المهزومين موقتا"!
ينتمي الباشاغا السعيد بوعلام إلى قبيلة السواحلية، ناحية تنس، ولاية الشلف. وكان والده متطوعا بالجيش الفرنسي ضمن المدعّم الأول للطلائع الجزائرية، قبل أن يواصل حياته العسكرية في خيالة الدرك.
وقد ولد في 2.10.1906 بسوق أهراس، حيث كان والده يرابط مع وحدت.
وبعد دراسة عادية في المرحلة الابتدائية أراد له والده السير على نهجه، فألحقه بأشبال الجيش وهو في 13 من عمره.
وبمجرد أن بلغ سن الرشد (18 سنة) التحق متطوعا بوحدة والده، وكان ذلك في أكتوبر 1924، ولم يغادر هذه الوحدة إلا غداة الحرب العالمية الثانية سنة 1946.
عند بداية الحرب كان المدعم الأول للطلائع الجزائرية في الجبهة الأمامية ناحية لالزاس، ويفهم من الترقيات التي حصل عليها أثناء الحرب، أن المقاتل السعيد بوعلام أبلى بلاء حسنا في الدفاع عن العلم الفرنسي... فقد حصل على رتبة ملازم سنة 1942، لينهي الحرب برتبة ملازم أول.
وأكثر من حاز على عدد من الأوسمة: صليب الحرب، صليب المقاتل، صليب الاستحقاق العسكري، ليختم كل ذلك بوسام الشرف الشهير.
وقبل تسربي سنة 1946 قلد رتبة نقيب احتياطي.
وما لبث أن جنى النقيب بوعلام ثمار وفائه للألوان الفرنسية اثر عودته إلى الحياة المدنية، فقد عين في أبريل 1947 قايد خدمات مدنية، بدوار بني بوعتاب التابع لبلدية الشلف المختلطة. وبعد 11 شهرا فقط تمت ترقيته وتعيينه قايد دوار بني بودوان ناحية الكريمية (عين الدفلى).
وغداة فاتح نوفمبر 1954، جدد القايد بوعلام العهد لإدارة الاحتلال بحماس نادر، ما جعلها تسارع برد الجميل، كما تؤكد ذلك استفادته من "ترقيات لاكوست"؛ فقد أصبح آغا في يوليو 56، وباشاغا بعد سنة فقط (بدل 6 سنوات على الأقل).
الباشاغا.. وزلزال نوفمبر 54
كان الباشاغا في صائفة 1954 مطمئنا لحال البلاد والعباد، مثل نظام الاحتلال الذي يمثله وسط اخوانه "المسلمين"(أي الجزائريين).
ففي نظره "أن جميع الجزائريين المتعلمين وجميع الميسورين نسبيا كانوا يتطلعون إلى المساواة في الحقوق (بالمستوطنين)".
ويبدو أن زلزال الأصنام (9 سبتمبر) كان أشد وقعا وأرسخ أثرا من زلزال فاتح نوفمبر!
فهو يقول في هذا الصدد: "أن زلزال الأصنام ألحق ضررا بالغا بالجزائر الفرنسية، وهو الذي أعطى التمرد (فاتح نوفمبر) هذا الاشعاع القومي"!
أما عن زلزال فاتح نوفمبر فيكتفي بالقول: "ذهب ظني أول وهلة إلى أن الأمر لا يعدو أن يكون تمردا بسيطا، من السهل القضاء عليه اذا تم ذلك بسرعة".. ويتأسف كثيرا لأن رد الفعل من ادارة الاحتلال "لم يكن بالسرعة المطلوبة"!
اتخذ الباشاغا موقفا مناوئا للثورة ولجبهة التحرير الوطني منذ البداية، وكان يومئذ يتوفر - حسب قوله - على 24 مسلحا ببنادق الصيد، فحرص على تنظيمهم لحماية دوار بني بودوان الذي يضم 15 ألف نسمة، ويمتد على مساحة بطول 80 كلم وعرض 50، يتخللها وديان الفضة وغلبان وبوسعيد..
ونظرا لموقفه المناوئ طلب من إدارة المنطقة تسليح رجاله، لكنها رفضت، كما رفضت اقتراحه أن يشتري الأسلحة بماله..
وحسب الباشاغا أن دواره ظل هادئا إلى غاية ربيع 1956، ليهتز فجأة على وقع قضية "مقاتلي الحرية"- التابعين للحزب الشيوعي الجزائري - بقيادة موريس لبان الذين كانوا يحاولون تأسيس بؤرة ثورية ناحية الونشريس.
ويقول ألباشاغا أن لعب دورا حاسما - كمكتشف للمحاولة وتبليغ القيادة العسكرية للناحية بها - في القضاء على هذه المحاولة، وعلى الهدوء النسبي الذي كان يتمتع به الدوار في نفس الوقت.
وقد بلغ ذلك جبهة التحرير فأعلنت الحرب عليه وعلى دواره، في شكل انذارين مبكرين:
- الأول: مناوشة الدوار باستهداف بعض مشاتيه، فضلا عن القيام بغنم بعض المواشيء.
- الثاني إعدام شقيق عبد القادر في 26 يوليو 1956 بتاويرة.
أمام دخول الباشاغا ودواره دوامة الحرب على هذا النحو، اقتنعت القيادة العسكرية في المنطقة بضرورة وجدوى استعمال "المسلمين الأوفياء"، مثلما كان الباشاغا يلح على ذلك منذ فاتح نوفمبر تقريبا.
وهكذا شكلت بدوار بني بودوان في يوليو 56 أول "مجموعة للدفاع الذاتي"من مئة نفر بنفس العدد من بنادق الصيد، أغلبهم من قدماء المحاربين أو المتقاعدين من الجيش.
وما لبث الباشاغا أن خطا خطوة ثانية في تغذية دوامة الحرب بـ "المسلمين الأوفياء": قيادة أول وحدة للحركى بالناحية من 300 مسلح ببنادق صيد ورشاشات 38. وتم ذلك بموافقة قائد المنطقة الجنرال "دوبري بويسون"، الذي حرص على تعيين النقيب "أنتيك"(❊) مساعدا للباشاغا!
يشيد الباشاغا بخصال مساعده العسكرية والقيادية، والذي كان يتطلع إلى أن يجعل من "الڤومية"وحدات صاعقة بأتم معنى الكلمة!
ويذكرنا بالمناسبة بأن "أنتيك"سبق أن أسس وحدات حركى في الهند الصينية، باسم "القوة ري"التي بلغ تعدادها 5000 عميل، ألحقوا - حسب قوله - خسائر فادحة بمقاتلي الجبهة الوطنية؟
كان حركى الباشاغا بوعلام - الذين تزايد عددهم حتى نيف على على الألف مسلح - ودوار بني بودوان عامة يشكلون عائقا استراتيجيا أمام جيش التحرير الوطني بالمنطقة الثالثة من الولاية الرابعة..
لأنهم كانوا يضطرون عناصره إلى قطع أكثر من 150 كلم مشيا، لتفادي نهر الشلف في بعض الأحيان، ويزعم الباشاغا أن قيادة المنطقة حاولت ارتشاءه، لتمكينها من ممر عبر الدوار!
لكنه رفض، فراحت تصب جام غضبها عليه، وعلى أفراد عائلته الصغيرة والكبيرة وعلى الدوار كله!
فقد كان شخصيا عرضة دوريا لسلسلة من رسائل التهديد، فضلا عن نجاته من محاولتين للتصفية سنتي 59 و60، وضرب في شقيقه كما سبقت الاشارة، كما تلقى ضربة أخرى أكثر إيلاما في القضاء على أصغر أبنائه عبد القادر يوم 28 يناير 1958، أياما قليلة بعد تسريحه من الخدمة العسكرية الاجبارية، ولقي نفس المصير ثلاثة من أصهاره...
ويقدم لنا الباشاغا نفس حصيلة إصراره على "أن يظل فرنسيا بقوله: دفعت مقابل ذلك ابني و17 من عائلتي المباشرة و15 من العائلة الواسعة، فضلا عن أكثر من 300 قتيل من عامة الدوار".
ويخبرنا في هذا الصدد أن حركى بني بودوان كانوا يقاتلون مع جيش الاحتلال بعيدا عن مواطنهم، مستشهدا على ذلك بسقوط 16 منهم ناحية الميلية بالولاية الثانية.
وكان الباشاغا على علاقة حسنة بجاره العميل عبد القادر بالحاج الجيلالي الذي كان يحتل منطقة تمتد مابين عين الدفلى والخميس مرورا بوادي الفضة وجبل ليرة، وكان قد دعمه في بداية خيانته بـ150 من رجاله، وحسب الباشاغا أن كناية "كوبوس"أطلقها عليه النقيب "كونيل"قائد "صاص"الكريمية.
فرحة 13 مايو القصيرة..
كان الباشاغا بوعلام مشغولا بهم المنطقة الثالثة من الولاية الرابعة، لاسيما أنها تمكنت في بداية 1958 من تصفية جاره وحليفه "كوبوس". لذا فوجئ بانقلاب 13 مايو على الجمهورية الرابعة، ووجد نفسه أمام الأمر الواقع حسب قوله.
لكن الانقلاب جاء ليبدد شكوكا بدأت تراوده منذ بداية السنة، وليؤكد عكس ذلك اقتناعه بأن الجيش سيعيد الأمور إلى مجاريها، لقد انتهت الثورة في نظره، فراح يبشر دواره بذلك قائلا: "الجيش الفرنسي انتصر.. لقد عادت السلم.. فرنسا فهمت هذه المرة. وستبذل الحكومة الجهد اللازم، لقد انتصرنا!"
وعاش الباشاغا فرحة عارمة يوم 4 يونيو الموالي بساحة "الفروم"(افريقيا حاليا)، عندما قال الجنرال دوغول عبارته الشهيرة: ليس هناك سوى فرنسا واحدة وشعب فرنسي واحد من دانكارك إلى تامنراست! يقول الباشاغا يصف حاله وأمثاله في تلك اللحظة: "كدنا نجن من الفرح! بعد أن حقق دوغول ما كنا نتطلع إليه منذ زمن بعيد".
علما أن دوغول ارتسم في ذاكرة الباشاغا بتوقيع مرسوم - في غضون الحرب العالمية الثانية - يفسح المجال أمام المجندين "المسلمين"بتقلد رتب أعلى في الجيش.. بعد أن كان الحد الأعلى لطموح المقاتل الجزائري لا يتعدى رتب نقيب.
مساء نفس اليوم استقبل مرشح الانقلابيين لرئاسة الجمهورية حوالي 30 شخصية من الفرنسيين و"المسلمين"من مختلف الاتجاهات، كان الباشاغا من بينهم، وقد بدا له أن يفاجئه بطلب غريب: "حضرة الجنرال أريد أن أكون فرنسيا"!
رد عليه الجنرال: "ألا ترى إمكانية قيام نظام اتحادي أو نوع من الاستقلال الذاتي؟
لكن الباشاغا أعاد الكرة: لا! أريد أن أكون فرنسيا"..
فهم الباشاغا من ملامح الرئيس الفرنسي القادم أنه يقول ضمنيا "هذا مستحيل"، فصرخ دون أن يشعر: "ماذا يا حضرة الجنرال؟ أتنوي التخلي عن الجزائر؟".
انتفض دوغول واقعا كأن جرح في كرامته، نظر إلى الباشاغا رافعا ذراعيه الكبيرتين قائلا: "يا أيها الباشاغا، ليست المسألة في التخلي عن الجزائر، كن واثقا بأنني لن أتخلى عنها، الجزائر ستظل فرنسية".
اطمأنّ الباشاغا هذه المرة.. واطمأن أكثر بعد أن فتحت الجمهورية الخامسة الوليدة (استفتاء 28 سبتمبر) أبواب الترقية السياسية على مصراعيها: ترشيحه لأول انتخابات تشريعية في نوفمبر من نفس السنة، وقد "شجعه"على الترشح الجنرال "غراسيو"قائد منطقة الشلف.. مايعني أن الفوز مضمون والحمد لله!
وفي أول تدخل للنائب الجديد في المجلس الوطني الفرنسي أعلن ما سبق أن كرر أمام الجنرال دوغول بالجزائر، لكن هذه المرة باسم "المسلمين الموالين لفرنسا": "نعم! نحن المسلمين الفرنسيين نريد أن نكون فرنسيين"مضيفا لمزيد من التأكيد: "فرنسيون نحن.. وفرنسيون سنبقى"!
في لقاء ثان بالجنرال دوغول وقد أصبح رئيسا للجمهورية ودخل قصر الأليزي مطلع يناير 1959، سأل الرئيس الجديد الباشاغا: "ألا ترى للجزائر نوعا من الاستقلالية تحت اشراف فرنسا؟"
تشبت الباشاغا بمواقفه السابقة بمزيد من التأكيد الملح: "لا! أريد أن أكون فرنسيا"..
"فرنسي على الدوام"..
فهم الرئيس الفرنسي هذا التأكيد الملح كمطلب شخصي فأجابه: "طيب ليس هناك أية مشكلة بالنسبة إليك"!
وفي لقاء ثالث بقصر الأليزي هذه المرة، عندما اختلى الجنرال لحظات بالباشاغا الذي اغتنم الفرصة ليبادره قائلا:
- "أين الجزائر الفرنسية التي تحدثتم عنها يا حضرة الجنرال؟ لم أعد أفهمك!
- - وجاء رد الجنرال: أنت الذي لا أفهمك، لأن جميع المسلمين لا يريدون أن يكونوا فرنسيين، وأنت الوحيد بين قلة قليلة تريد أن تكون فرنسيا"..
- ويسأل الباشاغا: وما مصيرنا يا حضرة الجنرال؟
- ويجيب الرئيس مشخصا الأمر مرة أخرى: ليس هناك مشكل بالنسبة إليك، لن أتخلى عنك أبدا، لكن ما رأيك في الوضع؟
الباشاغا مسكون بصيرة: نريد أن نبقى فرنسيين، لا بديل لي عن الجزائر الفرنسية.
(قطيعة خطأ - تقرير المصير)
كان دوغول يحاول منذ ربيع 1959 إفهام أقلية المستوطنين الفرنسيين، وأتباعها من "المسلمين"- مثل الباشاغا بوعلام - أن "الجزائر الفرنسية - حسب الوضع القائم لم تعد ممكنة.. وأن الزمن عفا عليها أو يكاد"..
وقد أكد ذلك في خطاب 16 سبتمبر 1959 بطرح مبدأ الاحتكام إلى تقرير المصير، واستشارة الشعب الجزائري في ثلاثة اختيارات: فرنسة - شراكة - انفصال، مراهنا ضمنيا على انتصار "الحل الوسط". أي الشراكة..
وبناء على المؤشرات السابقة من الطبيعي أن يرفض الباشاغا بوعلام هذا "الحل الوسط".. لذا نراه يقول بعد هذا الخطاب "فهمت بصفة نهائية بأن كل شيء قد ضاع"!
اعتبر الباشاغا خطاب دوغول تراجعا، عما سبق أن وعد به من الاحتفاظ بالجزائر الفرنسية، ويقدم نتيجتين لهذا التراجع من وجهة نظره:
- إقبال الناس عليه - من الدوار ومن خارجه - وهم يرددون: ماهذا التراجع؟! هذي خديعة! لقد تورطنا مع فرنسا، كيف يكون مصيرنا؟! ترى ما العمل؟!
- تزايد فرار المجندين "المسلمين"والحركى، والتحاقهم بجيش التحرير بشكل مثير.
كان التشبث "بالجزائر الفرنسية"يعني الارتماء في أحضان الأقلية الأوربية وممثليها المتطرفين.. ونكتشف بالمناسبة أن الباشاغا كان على نفس الخط - الأيديولوجي - مع هؤلاء المتطرفين - فالرجل لا يخفي إعجابه بـ:
- الوالي العام السابق نيجلان الذي شجع في نظره بتصريحات "المسلمين الموالين لفرنسا على مزيد من الالتزام معها".
- جاك سوستال الذي يقول عنه: "إن دوره في ترقية المسلمين كان حاسما بدون جدال"..!
- جورج بيدو الذي أثار اعجابه في جولته الأمريكية، عندما حاول اقناع الجمهور هناك بحجة أن استقلال الجزائر، يعني أن الهنود الحمر من حقهم أن يستعيدوا أمريكا منهم".!
قناعات الباشاغا في هذا الاتجاه، ما لبثت أن عبّرت عن نفسها من على منابر المجلس الوطني الفرنسي، غداة أسبوع المتاريس بالجزائر العاصمة، فقد أعلن في 30 يناير 1960 بصفته نائبا لرئيس المجلس تضامنه بقوة مع النائب المتطرف "لا غيارد"وزمرته قائلا: "إن قلب الأرياف ينبض بنفس النغمة مع العاصمة المدنية الشهيدة، المصممة على المضي حتى النهاية في الكفاح من أجل الكرامة والأخاء"!
وفي يونيو من نفس السنة، في أجواء لقاء "مولن"الذي فتح باب التفاوض العلني بين الحكومة الفرنسية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وجد الباشاغا نفسه في زمرة سوستال وبيدو وغيرهم، ممن نظموا "ندوات فانسان"بحضور 120 شخصية، تعاهدت فيما بينها على الدفاع عن "الجزائر الفرنسية"ورفض "الجزائر الجزائرية"- جزائر "الشراكة والحل الوسط"- التي أخذ الرئيس الفرنسي يبشر بها منذ ربيع نفس السنة..
وقد أفضت "ندوات فانسان"إلى ميلاد "جبهة الجزائر الفرنسية"التي أسندت نيابة رئاستها إلى الباشاغا بوعلام. وكان مع الباشاغا في معركة "الجزائر الفرنسية"نواب آخرون من "المسلمين"نذكر منهم: محمد الأعرجي، أيولالن، أحمد (ألان) جبور.. نائب العاصمة الذي صعد من تطرفه بعد نجاته من محاولتين لتصفيته، كما يؤكد ذلك اقتراحه بالمجلس الفرنسي مشروع قانون استثنائي، يحكم بالاعدام الفوري على عناصر نظام الفداء في باريس..
وينسب الباشاغا إلى صديقه الأعرجي أنها استعطف دوغول - بعد خطاب 16 سبتمبر 1959 - قائلا: "لكن سيادة الرئيس سيكون العذاب مصيرنا!"فما كان من دوغول إلا أنه رد عليه بقول: "ستتعذبون فعلا"!
خيبات.. الباشاغا
كان استفتاء 8 يناير 1961 - الذي فوض الرئيس الفرنسي السعي لحل المشكلة الجزائرية - ضربة قاضية للباشاغا بوعلام، فقد تألم كثيرا لأن الاستفتاء اقتصر على فرنسا، وكأن الأمر لا يعني "المسلمين الأوفياء"لها بالجزائر، فضلا عن أقلية "الكولون"!
وتألم أكثر لانفضاض الناس من حوله، وعتابهم المقنَّع له، ورفضهم لخطابه الموالي "للجزائر الفرنسية"بعد الآن، فقد توافد عليه أقوام من مختلف نواحي المنطقة، يخاطبونه بنوع من التأنيب: "قد فهمنا نحن أيضا، ياسي الباشاغا، دعك من الفرنسيين انهم جبناء، لم يبق أمامنا غير الالتحاق بجبهة التحرير"!
أمام هذا الموقف الحرج يعبر الباشاغا المطعون عن حيرته وعجزه قائلا: بماذا نرد؟!
وماذا نفعل غير اجترار آلامان؟!
كان الباشاغا عشية وقف القتال (19 مارس 1962) على رأس 1500 حركي، ونظرا لغروره المفرط كان يعتزم مقاومة النظام الجديد بقيادة جبهة التحرير الوطني بعد ما يعتبره "استسلاما لفرنسا، بنية التفاوض مع الجبهة وانقاذ ما يمكن انقاذه! ولم يكن يتردد أمام التحالف مع المنظمة الارهابية (المنظمة المسلحة السرية)، بدليل استقدام العقيد "ڤارد"أحد قادتها لتأسيس بؤرة مسلحة بالونشريس..
غير أن التدخل السريع لجبهة التحرير والجيش الفرنسي أحبط هذه المحاولة اليائسة التي انعكست سلبا على حركى الباشاغا أنفسهم بتجريدهم من سلاحهم.. ويقول عن ذلك بمرارة إن الجيش الفرنسي فعل فعلته، قبل أن يشرع في الانسحاب، تاركا جبهة التحرير عند عتبات مزرعته!
أمام هذه الوضعية الخطيرة لم يبق للشاغا إلا النجاة بالنفس والأهل وبعض المقربين إليه..
وقد تكفل جيش الاحتلال بأجلائه من مطار الشلف باتجاه الجنوب الفرنسي، وبالضبط بمنطقة "لاكمارڤ"حيث منع 40هـ بناحية "ماس تيبار".
ويبدو الباشاغا أول وهلة غير قانع بهذا التعويض، عن "خدمة فرنسا طيلة 130 سنة"! فالمساحة قليلة قياسا بـ: الـ33 ألف هكتار التي كان يستغلها في دوار بني بودوان، فضلا عن وجودها في منطقة مستنقعات موبوءة، ومستوطن للبعوض على مدار السنة، عكس وهاد وسفوح جبال الونشريس الجميلة!
هذا الغبن في حقه أجهز عليه معنويا، بدليل قوله أنه "أصبح في عداد الأموات الأحياء"!
وكانت آخر طلقة في 28 يونيو 1962، من على مقاعد المجلس الوطني الفرنسي.
وفيها يندب الباشاغا حظ الحركي عموما الذين جردوا من أسلحتهم، ليتركوا "تحت رحمة السادة الجدد".. لقد صرخ يومها بأعلى صوت: "لقد سلمتمونا!"
وكانت السلطات الفرنسية قد وضعت مخططا لأجلاء عدد من الحركى، لكن البعض منهم سبق بالنزوح إلى فرنسا من تلقاء أنفسهم، فقررت اعادتهم من حيث أتوا!
وقد أغضب ذلك الباشاغا أيّما غضب..
فكانت آخر طلقة منه..
آخر طلقة، لأن حكومة الجنرال دوغول سارعت باستخلاص النتائج من استفتاء تقرير المصير وإعلان استقلال الجزائر، بإصدار أمر رئاسي في 4 يوليو 1962، يسقط حق 68 نائبا و34 عضوا بمجلس الشيوخ، كانوا يمثلون الجزائر في البرلمان الفرنسي.
وقد اعتبر الباشاغا النائب ذلك طعنة أخرى وعامل خيبة إضافيا، تلك الخيبة التي تعمق شكوكا في جدوى تضحيات من أجل فرنسا، كما يبدو ذلك جليا في تساؤله المحير: "هل يعترف لي (وطنه الجديد فرنسا) بما تحملت من تضحيات وقدمت من خدمات؟"، ليجيب بنفسه: "لست متأكدا من ذلك"! (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(❊) نقيب من صاعقة المخابرات.. ماهر في إدارة شؤون الحركى من الهند الصينية إلى الجزائر.
1- BACHAGA BOUALAM, MON PAYS LA FRANCE, Ed. FRANCE-EMPIRE,PARIS 1962